-
لو شاء «مارك»
مع بداية ثورة المعلوماتية، بدأت تتردّد عبارة «العالم قرية صغيرة»، لم نفهمها بادئ الأمر، حين كنا محكومين بالبريد الإلكتروني، ثم بعدها بالماسنجر، وتحققت قفزة نوعية في علاقاتنا «العملية»، فلم نعد مضطرين لكتابة مقالاتنا، ووضعها في مغلف، ثم إلصاق طابع عليها، وإرسالها بالبريد، والانتظار أياماً وربما أسابيع، حتى تصل مقالاتنا، وتنشر، ونراها في الصحف التي كنا نعمل معها بنظام «المادة» مستكتبين. مارك
أحياناً يكون الحدث الذي نكتب عنه، والذي يكون على الأغلب فعالية ثقافية، بالنسبة لي، قد نسيه حتى منظّموه، ثم ننتظر أشهراً قبل أن يتم تحويل المبلغ المادي «الاستكتاب» لنا، بعد ذلك صرنا نكتفي بكتابة المقالة على صفحة وورد، ثم إرسالها بالبريد الإلكتروني، حيث ستنشر بعد يوم أو يومين، وسوف تتطور أمورنا أكثر بعد ذلك، حين ستنبثق عشرات المواقع الإلكترونية، وسوف يتسابق الصحفيون لسدّ حاجة تلك المواقع من المقالات والأخبار والتحقيقات، لكن قليلة هي المواقع التي استمرت في عملها، وخاصة بعد أن تحولت صحف كبرى للنشر الإلكتروني، وزاحمت الحالمين الرقميين على عالمهم الجديد، فسحبت البساط من تحت أقدامهم، ربما بسبب ما تملكه تلك الصحف من جماهيرية وخبرة ودعم مادي، لم يكن الرقميون يمتلكونه. مارك
إلى أن فتحت وسائل التواصل الاجتماعي الأبواب على مصاريعها، ومنحت من يريد «الفرصة» ليصير أحد قادة الرأي العام، الذين يستطيعون توجيه متابعيهم حيثما يرغبون، في الطبخ، واللباس، والقضايا الاجتماعية، والقراءة، والأفلام، وكل شيء تقريباً، تستطيع من خلال جولات على اليوتيوب أو الفيسبوك أو سواها من وسائل التواصل، أن تجد ضالتك، أياً تكن، بحثت منذ فترة عن طريقة لتصليح أداة كهربائية في المنزل، فعثرت على أكثر من ثلاثين فيديو توضيحياً، وبمختلف اللغات. وتحول «قادة الرأي» أولئك، إلى نجوم إعلاميين، انتقل بعضهم للعمل في قنوات تلفزيونية، طباخين، ومقدمي برامج هزلية، أو حتى نقاداً سياسيين وفنيين، وهذا تحوّل مهم في مسارات العمل الإعلامي، إذ أصبح العمل الإعلامي متاحاً للجميع، ووجد «الموهوبون» فرصة لإبراز مواهبهم، شخصياً، أتابع بعض التجارب الشبابية وتعجبني، وأتمنى لأصحابها التطور والاستمرارية.
الثورة السورية فتحت الباب على مصراعيه لثورة إعلامية من نوع مختلف، فتحولت صفحات على بعض مواقع التواصل إلى مصادر إخبارية، وقد نشط في تخديم تلك الصفحات ناشطون ينتشرون على الأرض السورية، كانوا يزودونها بكل ما تحتاج إليه من «مادة أولية» لجذب المتابع والمتلقي، فلم نعد مضطرين للذهاب إلى أجهزة التحكم، والبحث في القنوات الفضائية عن خبر ما، إذ سنكتفي، وحتى في «غرف الأخبار»، بتلك الأخبار التي لا تنقطع، نحاول قدر المستطاع التثبت من صحتها، ومن مصادر مختلفة، ثم نقوم بعرضها، وهذا ما لم تكن تفعله تلك «الصفحات»، فاختلط الكذب بالصدق فيها، وضاعت «الحرفية»، ففقدت شيئاً فشيئاً صدقيتها.
وقد كتب، ومن باب السخرية أحياناً، الكثير عما يقوم به «الناشطات والناشطون » من تدمير لمهنة الإعلام، ومع أني أرى الأمور بطريقة مختلفة، إلا أنّ تلك السخرية فيها شيء من الحقيقة، فقد حدث أن التقيت بشاب «ناشط إعلامي»، عرض أمامي نماذج عما قدمه من مقاطع فيديو لمظاهرات، وظهوره بالصوت والصورة أكثر من مرة على إحدى القنوات الشهيرة، لكن الناشط نفسه، والذي بات يقدم نفسه على أنّه «إعلامي»، لا يفرّق أبداً بين الخبر وبين التقرير، أو بين المقالة وبين التحقيق. وتحولت تلك الثورة الإعلامية إلى فوضى إعلامية، تماماً كما تحولت ثورة الحرية والكرامة إلى لا أدري ماذا.
والحقيقة، لم نكتفِ نحن، السوريين، بما قدمته وسائل التواصل الاجتماعي من خدمات في المجال الإعلامي، لكننا حولناها تباعاً إلى ما يشبه «الوطن البديل»، وهذا الشيء طبيعي جداً، بسبب حالة التشرد والتهجير المخيفة التي عانيناها وما زلنا نعانيها، وجلبنا إلى ذلك الوطن البديل كل ما يمكّننا من الإحساس بأننا فاعلون في الساحة السورية، أو في الحدث السوري، فأُنشئت تجمعات، وأحزاب، وتيارات سياسية، كلها افتراضية، وربما لا يعرف أعضاؤها بعضهم بعضهم واقعياً، وقد وجهت لي الدعوة أكثر من مرة للاشتراك في «تجمعات سياسية افتراضية» تحمل شعارات ومبادئ، ولديها دساتير عمل، مع أنّ واحداً من أهم شروط العمل السياسي هو أن يكون قريباً للأرض، وقادراً على التفاعل معها ومع متغيراتها، بمعنى آخر أن يكون قريباً من الناس، وهم المادة الأساسية لأي مشروع سياسي، مهما كان صغيراً.
عام ٢٠١٣ سئلت من أحد الأصدقاء الصحفيين، في إطار تحقيق صحفي كان يجريه عن الأحزاب السورية، عن رأيي في تشكيل أحزاب سورية في المنفى، فقلت: العمل السياسي في المنفى يجب أن يكون منصباً على كيفية العودة إلى الداخل، وليس رسم خطط مستقبلية، لما بعد سقوط النظام.
نشأتْ، حسب متابعتي، عشرات التيارات والتكتلات والأحزاب، وقد تلقى بعضها دعماً مادياً، لا بأس به، من جهات مختلفة لها أجندات ومشاريع مختلفة، وربما متضاربة في بعض الأحيان، كما سمعت، لكن انفرط عقد ثلاثة أرباعها، وربما أكثر، لعدم توافر شريطة الأرض، و«الناس»، فالعمل السياسي، كما أعلم ويعلم الكثيرون، ليس حصد إعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي، وسوف يتوالى ظهور تيارات وتجمعات وتكتلات، وربما أحزاب، إلا إذا «شاء مارك» _ومارك هو السيد مارك زوكريبرج المدير التنفيذي لشركة فيسبوك_ أن يعطل الفيسبوك أو أن يوقفه بشكل نهائي، الرجل كما نقرأ ونعلم صار مليارديراً، وربما قد يفكر بمشروع مختلف، كأن يؤسّس شركة لخدمات التسويق الالكتروني مثلاً، وخاصة بعد أن أثبتت تجربة «الحجر الكوروني» أنّ ثروة جيف بيزوس، مالك موقع أمازون تضاعفت بمقدار سبعة بالمئة خلال ثلاثة أشهر، أو ماذا لو شاء مارك أن يبيع شركته العملاقة لرجل أعمال روسي مثلاً، وكان الشاري أحد شركاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقرر المالك الجديد أن ينفذ توجيهات بوتين، ماذا ستفعل تلك التجمعات السياسية الافتراضية ساعتها؟ هل سوف تقرر مقاطعة الفيسبوك والبحث عن «وطن بديل» آخر؟ أم ستخضع لشروط المالك الجديد، وتتوقف عن مهاجمة سياسة سيده الذي أحرق سوريا عن بكرة أبيها، عملاً بمبدأ ميكافيللي الشهير « الغاية تبرر الوسيلة »؟
أخيراً، منذ أشهر تواصل معي شاب سوري، من أبناء الثورة، مهجر في إحدى مدن الشمال، أو ما يسمى بالشمال المحرر، وسألني السؤال اللينيني الشهير «ما العمل؟» فأجبته من دون تردد، مستعيناً بآية من القرآن أحبها كثيراً: «وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»، وكي أوضح فكرتي لصديقي الشاب أكثر، قلت شارحاً: «أنتم أهل الأرض، وأنتم أدرى منا بشعابها، ارسموا لنا خطتكم وسوف أكون أول من يؤيدكم». فهناك في سوريا فقط، يمكن للشجرة أن تزرع، وتنمو، ثم تثمر. وأما «الزبد فيذهب جفاء».
وربما يكون لهذا الحديث بقية..
ثائر الزعزوع
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!