-
من موسكو إلى خصومها: عدائي يضرّكم.. وتعاوننا ينفعكم
من الجلّي أنّ موسكو تبدو قريبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، على مدار الأعوام التسعة والعشرين المنصرمة، على انهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991، من إعادة التوازن إلى العالم، من خلال اختراق نظرية القطب الواحد، إلى عالم ذي قطبين، وربما ثلاثة، إذا ما تم الانتباه إلى الدور المتنامي للصين، وبشكل خاص، في الإقليم المحيط بالصين، والتي كان أبرز أحداثها القريبة، قضية هونغ كونغ وسنّ قانون الأمن القومي الصيني فيها.
موسكو والكفة الموازية لواشنطن
وتتعامل موسكو مع موقعها وقوتها من تلك الفكرة، رغم ما قد يعترضها من نقص في المنافسة مع واشنطن، من ناحية الأموال أو الصناعة المتطورة، لكنها تمارس سياسة متوازنة، وتسعى لخلق مواطئ قدم لها في مناطق الصراع، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد في سوريا، وهو ما تحاول تكراره في ليبيا، بجانب تذكير واشنطن بأنّها قوة لا يستهان بها، وهو ما أعرب عنه وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في الثامن من يوليو، عندما عبر عن أسف موسكو إزاء إعلان وزير الدفاع الأمريكي، مارك إسبر، عن نجاح البنتاغون في “ردع” روسيا والصين، خلال العام الأخير.
حيث قال لافروف، في أعقاب محادثات افتراضية مع وزراء خارجية مصر وجنوب أفريقيا والكونغو: “تصريحات مارك إسبر، لا أرى فيها شيئاً يستحق التعليق، وإذا كان يعتبر ردع روسيا والصين أهم أولوية لوزارته، فإنّ ذلك يعكس الفلسفة التي تتبعها الإدارة الأمريكية الحالية، التي يغمرها في الواقع الرغبة في ردع كل واحد باستثناء نفسها”، واصفاً تصريحات إسبر بالـ”محزنة”، خاصة وأنها تتناقض مع الموقف التقليدي، القاضي بأنّ المسؤولين العسكريين يتعاملون مع القضايا التي قد تؤدي إلى نشوب نزاعات، بحذر وحيطة أكبر من السياسيين.
وتابع لافروف، بأنّه واثق من أنّ هدف هذا النهج الأمريكي يكمن في التخلص من كل ما يحدّ من حرية تصرفات الإدارة الأمريكية، لمنحها الحصانة من أي عقاب، على الصعيد الدولي، مشيراً إلى انسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب من سلسلة معاهدات دولية مهمة، بما في ذلك معاهدة التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، ومعاهدة السماء المفتوحة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتابع: “مثل هذا النهج والفلسفة لوزير الدفاع يستدعي أسفنا، لأننا معنيون بطبيعة الحال بتطوير الحوار الطبيعي مع جميع الدول، بما فيها الولايات المتحدة”.
واشنطن مُدركة لحجم القوة الروسية
لكن ورغم التصريحات الشديدة من قبل البنتاغون، يبدو أنّ للبيت الأبيض رأياً آخر، إذ تختلف التوجهات بشكل جلي بين مؤسسات الحكم الأمريكية، مع هيمنة تيار أو حزب أو لوبي، على كل واحد من المؤسسات السيادية الأمريكية، وهو ما يمكن استشفاؤه من تصريحاتٍ، في السادس من يوليو، على لسان كبير موظفي البيت الأبيض، مارك ميدوز، الذي قال: “إنّ مقالة “نيويورك تايمز” التي قيل فيها أنّ موسكو تعهدت لمسلحي “طالبان” في أفغانستان، بمكافآت مالية لقاء قتل العسكريين الأمريكيين، لا أساس لها من الصحة”.
وهو ما لفت إلى مساعي البيت الأبيض لعدم الخوض في صراع مع موسكو، في الوقت الراهن، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في نوفمبر القادم، حيث أردف ميدوز، الذي كان حتى نهاية مارس من هذا العام، عضواً في مجلس النواب بالكونغرس الأمريكي: “من المفترض أنّه لدى صحيفة “نيويورك تايمز” معلومات استخبارية يصعب تصديقها، ولكن في الحقيقة لم يكن لهذه المعلومات المزعومة أي أساس”.
متابعاً: “في رأيي، لو قام زملائي الديمقراطيون بقراءة تقارير المخابرات، بدلاً من مقالات نيويورك تايمز، لكانوا سينظرون إلى مثل هذه المقالات بشكل آخر”، لافتاً إلى أنّ الصحيفة نشرت معلومات غير مؤكدة، ونوّه أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، كان سيتخذ الإجراءات اللازمة لو تلقى معلومات موثوقة وأدلة مثبتة بهذا الصدد (في إشارة إلى تحريض موسكو على الجنود الأمريكيين في أفغانستان)، حيث عرضت صحيفة “نيويورك تايمز”، في السادس والعشرين من يونيو الماضي، مقالاً نقلاً عن مسؤولين في وكالة الاستخبارات الأمريكية، لم تذكر أسماءهم، يشير أنّ الاستخبارات العسكرية الروسية عرضت مكافآت للمسلحين المرتبطين بطالبان، في مقابل القيام بهجمات على الجنود الأمريكيين في أفغانستان، فيما نشر جمهوريون أعضاء في الكونغرس الأمريكي، تقريراً، اتهموا فيه موسكو، بتمويل حركة “طالبان”، ودعوا إلى فرض عقوبات أشد على موسكو.
تيقن أمريكي من الدور الروسي في أفغانستان
وهو موقف لا يبدو أنّه راق لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال مارك ميلي، الذي أصر خلال تصريحات، في التاسع من يوليو، أنّ روسيا تنشط في أفغانستان عبر تواصلها مع مجموعات متطرفة، في مقدمتها “شبكة حقاني” وحركة “طالبان”، وذلك خلال جلسات استماع، نظمتها اللجنة لشؤون القوات المسلحة في مجلس النواب الأمريكي، وتابع ميلي: “كنا نعلم على مدار سنين أنّ روسيا متورطة في الوضع في أفغانستان، وذلك لتحقيق مصالح أمنها القومي، روسيا ليست صديقتنا ومشاركتهم (في الوضع الأفغاني) تثير قلقنا، كنا نرصد ذلك عن كثب ونتخذ الإجراءات المناسبة”.
وأشار الجنرال الأمريكي، إلى أنّ روسيا وإلى جانب الصين وباكستان وإيران، وغيرها من الدول، التي لها يد في التطورات الجارية في أفغانستان، مضيفاً، أنّ موسكو تنشط في هذا البلد، “عبر طالبان و(شبكة) حقاني ومجموعات أخرى”، وهي تصريحات تفتح الأبواب بلا شك على استفسارات كبيرة حول رفض مؤسسة البيت الأبيض، التي يديرها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في رفض الصدام مع روسيا، وهي قد تجد مجموعة أجوبة مقنعة، لعل أبرزها، أنّ البيت الأبيض مدرك أنّ النظام العالمي يتغير، في ظل انحلال عقده في مناطق كثيرة من العالم، ورغبة ترامب في الانسحاب من أكبر قدر ممكن من الصراعات العالمية.
القبول بالشراكة وتقاسم النفوذ
ومع إدراك كل من الجانبين الحقائق الجديدة التي يجري ترسيخها في العالم، يبدو أنّ الطرفين لن يكون أمامها سوى أن يتوجها معاً إلى القبول بالشراكة، وتقاسم مناطق النفوذ، درءاً للدخول في مواجهة مسلحة، والسعي إلى حل القضايا العالقة في العالم، عبر رؤية تؤمن مصالح الجانبين، بغض النظر بطبيعة الحال عن مصلحة الشعوب التي تجري المساومات حول أراضيهم، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من بحث وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، ونظيره الأمريكي، مايك بومبيو، في اتصال هاتفي، بتاريخ الثالث عشر من يوليو، وتسوية الأزمات في كل من ليبيا وسوريا وأفغانستان، والذي يعني فيما يعنيه، إقرار كل طرف للآخر، بأنّ لا حل في تلك البلاد دون اتفاق مُرضي للجانبين.
ورغم عدم رضا الجانبين عن بعضهما في كثير من القضايا، إلا أنّ المستقبل القريب لن يحمل في الغالب إلا مزيداً من التنسيق بين الجانبين، لتحقيق مصالح موسكو وواشنطن، وعليه.. ربما قد نجحت موسكو في فرض نظرية “صداقتي أفضل من استعدائي، لمن يفقه”، وهي نظرية سيتسابق كثيرون للمُصادقة عليها، فور اعتمادها من قبل واشنطن، بشكل رسمي.
ليفانت-خاص
إعداد وتحرير: أحمد قطمة
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!