الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
ضريبة الحب غير المشروط
جمال الشوفي

من المدهش أن يرتبط الحب بالضريبة، والأكثر إدهاشاً أن يكون الحب غير المشروط كأسمى درجات الحرية والارتقاء الإنساني له ضريبة مالية تدفع للخزانة.

كان للعام 2021 وما قبله نهايات غرائبية، وربما لسان حال السوريين يقول ما الغريب فيه، لقد كان كباقي الأعوام التي سبقت: سيل من الكوارث لا يتوقف والعديد من اللقاءات الدولية الماراثونية في الحل السوري، 17 أستانا، ومثلها عدد في الفيتو المزدوج الروسي الصيني، وثلاثة عشر جنيفاً، وست لقاءات في فيينا، وعشرات المنصّات ومئات اللقاءات هنا وهناك، والعديد العديد من الهيئات التي تبحث في الحل السوري.. فما الذي تغيّر حتى يسمّى غرائبياً؟

حقيقة من الإسفاف أن نقول ثمة تغيّر ما ذو شأن، لكن ثمة ما حدث في الأيام الأخيرة لعام 2021 مثير للدهشة، منها أن أتت الزيادة على راتب الموظف السوري بنسبة 30%، ليصبح متوسط دخل الموظف حوالي 100 ألف ليرة سورية شهرياً (ما يعادل 30 دولاراً) فيما كانت السلطة الفلسطينية تقرّ ذات الزيادة على الحد الأدنى للأجور لكن لتصبح ما يعادل 582 دولاراً شهرياً، أي أعلى من الدخل السنوي للمواطن السوري كاملاً، الذي ينعم بنعم المقاومة وإسطوانات تحرير الأراضي العربية المحتلة. ولكن الأكثر غرائبية أن يتم فرض ضريبة على اقتناء الكلاب مقدارها 15000 ليرة سورية سنوياً، مع سيناريو قانوني للاقتناء والمخالفات. وما الغريب في هذا؟ أنه ككل الدول المتقدمة ويضاهيها تنظيماً، وهو دلالة رفاهية وغنى.

من هنا تبدأ قصة مختلفة لدى السوريين الذين ألفوا بأريافهم تربية كلاب الحراسة، وألفت مدنهم وجود الكلاب الضالة، وقلما كان يُعرف تربية الكلاب أو اقتنائها في المنازل سوى عند الطبقات العليا، المسماة "كلاس"، كتقليد أوروبي، لكن اليوم بات الأمر متسعاً لدرجة يُفرض عليه ضريبة، والملفت للنظر حدة ذكاء المشرّع، الذي التقط عن حذاقة، أنّ غالبية السوريين باتوا يقتنون الكلاب، فلما لا تفرض عليهم ضريبة، خاصة وأن جباية الأموال الضريبية هي سياسة الخزينة السورية العام الفائت وقد تمتد لأعوام في ظل اختناقاتها وعجزها الفاقع.

اذاً وجدنا معنى للعنوان بكلمة الضريبة، لك أين الحب غير المشروط في ذلك؟

لم يكن حال السورين ومطالبهم مطالب أكل وشرب، ولا تفتيش عن مستوى حياة رفاهية ولا ثروات كبيرة لدرجة أن يقتني الغالبية كلاباً فيما يحاكي الحياة الأوروبية مادياً، بل كانت في الجذر والعمق هو معنى الحياة وقيمتها الإنسانية المتمثلة في الكرامة الشخصية وصونها من الإهانة، في الحرية الخاصة والعامة وانعتاق الذات الفردية للشخص، والذوات الجماعية للمجتمع والجماعات، من رقبة العادات المكبلة والمقيدة، وسطوة الأديان المسيّسة، وهيمنة سياسة الاستحواذ الحزبية والأمنية على حياتهم، وتعزيز إمكاناتهم وتحقيق ذواتهم وتقديرها كما يليق بالإنسان والمواطن أن يكون. وهذه الثلاثة، الكرامة والحرية والتقدير، في تكاملها، هي محتوى حضاري وقيمي وتمايز وجودي، يتجلى في أكثر صوره وضوحاً في الكيفية التي يعيش فيها المرء بصدق مع الذات والآخرين، دون مواربة أو خداع.

فما دام الفرد حراً في خياراته ومسؤول عنها، والقوانين تصون كرامته، والواقع بمعطياته وإمكاناته تفتح له مجالات تحقيق الذات وتقديرها، فهو مؤهلٌ لشتّى نماذج علاقات العمل والإنتاج وعلاقات الحياة العامة من صداقة وتعارف وتحابب وألفة أهلية واجتماعية ومدنية عامة بوضوح وإخلاص، فقط لأنه بات ذاتاً حرة مقدرة وذا كرامة. لكن أن يجد كل هذا بات مسحوقاً أمام ناظريه بشتى وسائل القهر التاريخية، الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، مع انعكاساتها على المستويات المجتمعية التي باتت تتفكك رويداً رويداً مع تزايد الحلول الفردية الانتهازية منها والمشروعة، وتزايد انعدام الأمن الحياتي والغذائي والسياسي والمعاشي، لدرجة باتت علاقات الألفة والحميمية، على قلتها، تشوبها كل أصناف الغش والخداع والمراوغة والخيبات، خاصة في مستوى أجيال الشباب، الذي يكاد يفقد آخر آماله في حياة طبيعية أقلها الأمان والاستقرار.

كل هذا، وغيره الكثير من سلال العجب العجاب السورية، قاد معظم جيل الشباب السوري للبحث عن الألفة الروحية والقيمة الحياتية، عن أخلاق الصداقة النقية، والحب غير المشروط، أجل غير المشروط، خلافاً لسلسلة الشروط غير المنتهية التي تكبل حياتهم اليوم، وكان أحداها اقتناء الكلاب المنزلية كصديق حميم ومحبوب بلا شروط.

أجل اقتناء الكلاب المنزلية تعبير صارخ عن الحاجة للقيم المفقودة اليوم مجتمعياً، تعبير عن الصدق والوفاء الذي تقدمه الكلاب للفرد السوري، للشاب السوري الذي يبحث عن مساحة للحنية والحب يريح بها طاقته الروحية التواقة للتقدير والحميمية، للبهجة والفرح.. للتعبير عن حريته في الاختيار متجلياً في حب غير مشروط تقدمه كلاب المنزل، بدل سيل الاكتئاب والتوحد والعزلة والغربة التي يعيشها في محيط اجتماعي بات أشد ظلمة من عصر المماليك والدويلات، من عصر الظلمات الأوروبي، حين كان يعاقب الحب بالجلد ليخرج شيطان الشهوة من جسد مرتكب جرم الحب حينها.

من غير الممكن مقاربة ظاهرة اقتناء الكلاب لدى الأوروبيين والسوريين، فطبيعة الحياة المادية والصناعية ونماذج استلابها العام، تفرض شروطاً قاسية من حيث الوحدة والعزلة النسبية التي يعيشها المواطن الأوروبي، لكنه بذات الوقت هو مواطن ذو كرامة وحرية وحق في الحياة وذو ذات مقدرة وقابلة للتحقق كل لحظة، هو يعيش كل تجليات الحداثة حقوقاً وحريات، ومع هذا يمكن النقد بكل لحظة لهيمنة عصر الصناعة والتقنية على الحياة هناك، ولكن لا يمكن نقد ظاهرة اقتناء الكلاب، حيث تقدير الحيوانات قاعدة إنسانية سامية تكفلها القوانين والأخلاق. بينما حق الحياة المسلوب والكرامة المهانة والحريات المدانة بالمؤامرة، والاقتصاد والسياسة الكارثية، قادت السوريين لتفكك اجتماعي عام بات فيه الكلب أوفى من الإنسان، يقدّم الصدق والوفاء والحب بلا شروط، فلا عجب أن يصنّف رفاهية وتُفرض عليه ضريبة، إذ ليس للسوري حق في الحياة في الأساس إلا وفق شروط سلطته ومشرّعيها كذوات مستلبة بلا أدنى حدود للإنسانية والكرامة.

المثل العربي، ابن تراث الصحراء والحياة الريفية والبدوية القديمة، يقول: من تنبح في ديارهم الكلاب فهو بيت كرم، دلالة على كثرة ضيوفه وزواره والكلاب لا تنبح إلا على غريب الدار، بينما اليوم بات من الممكن القول، البيت الذي يسمع فيه صوت كلب هو ذو كرامة، كونه تعبير مخالف عن انهيار القيم الإنسانية والروحية العامة، فقد اشترى المرء كرامته بمزيد من العزلة في بيته تجنباً لسوء الحياة، ولكن باصطحاب من يقدمون الحب بلا شروط، ويا لها من مفارقة.

كان للحلاج درجات في التجلّي والارتقاء للحب غير المشروط، لعناق الذات الإلهية، كهالة نور بيضاء، لكنه لم يخطر بباله أبداً، أن تكون إحدى تجليات الحب غير المشروط هذه اقتناء كلب، بعد أن عسف الظلم والسحق كل ذوات المجتمع! وهذه مفارقة كبرى في معاندة شهوة السلطات وشروطها في الهيمنة والتملك والاستحواذ والسطوة والاستلاب، إنها دلالة حياة وبحث عن تجليات الروح كسراً لكل فروض الهيمنة والعزلة والموت البطيء، ولتكن إذاً ضريبة الحب غير المشروط والكرامة بآن.

 

ليفانت - جمال الشوفي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!