الوضع المظلم
السبت ٢٨ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
موناليزا الفلسطينية
أسامة هنيدي

لعل أبرز ما برز على الشاشات في الأيام الأخيرة هي صورة الشباب الفلسطيني الذي تعلو وجهه الابتسامة لحظة اعتقاله أو توقيفه من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، على خلفية قضية انتزاع البيوت من أهلها في حي الشيخ جراح المقدسي.


أن تعلو وجهك ابتسامة لحظة اعتقالك، فذلك مما له دلالات عظيمة اليوم وبعد سبعة عقود من نكبتك، فلماذا تبتسم أيها الفلسطيني؟

- أبتسم لأنّ إدوارد سعيد كان حين ينتهي من عزف قطعة بيانو في منزله في نيويورك يتفقد مفتاح بيته في القدس.

-أبتسم لأنّ ياسر عرفات دخل في إحدى خطاباته وهو يحمل صورة لتمثال السيدة مريم في كنيسة المهد، مشيراً أنّ العالم لم يصمت عندما مسّت حركة طالبان تمثال بوذا في باكستان.

- أبتسم لأنّ حنظلة ناجي العلي ما زال يشدني من يدي وهو يرمي لي النكات.

- أبتسم لأنّ محمود درويش تنبأ بابتسامتي حين قال:

" قالوا ابتسم لتعيش

فابتسمت عيونك للطريق

وتبرأت عيناك من قلب يرمده الحريق".

- أبتسم لأني أعلم جيداً ما الذي حلم به غسان كنفاني وهو يكتب: عائد إلى حيفا.

هكذا أجابني الفلسطيني على سؤالي، ولعله يختزن الكثير من الحكايات التي تروى وتقال ولا تنتهي.


إنّ عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة اليوم بعد ثورات الربيع العربي إنما لها ما يبررها لكونها أعدل القضايا على وجه الأرض، وربما لن تكون هذه الحلقة من الصراع العربي الإسرائيلي هي الأخيرة، لكن شعوراً عربياً عاماً عاد للظهور بعد خفوت طويل له ما يبرره من حال السوري المشرد الباحث عن أسس الحياة، والمصري الحر الذي أعادته سلطة العسكر إلى مربع الصفر، والتونسي الذي يصارع قوى الإسلام السياسي الظلامية، واللبناني المختطف من قوى الملالي بسطوة السلاح، والخليجي البعيد عن كل ذلك بفعل التطبيع المستجد، وغياب دوره التاريخي أصلاً في هذ الشأن.


إنّ ابتسامة الفلسطيني المعتقل تحفة لا تقلّ شأناً عن ابتسامة الموناليزا الشهيرة، إلا أنّها ليست عملاً فنياً عظيماً فقط، بل هي مشروع الحياة التي يحلم بها كل من فطر على فكرة الحرية على وجه الأرض.


وفي المشهد ضحكة ذاك الأب التي تناقلتها وسائل التواصل لحظة اعتقاله بينما تسأله ابنته عن لعبتها البيضاء، نعم إنّه الفلسطيني الذي يضحك رغم النكبة والنكسة والحصار والتهويد والاحتلال.


نتذكر جيداً تلك اللحظات العاطفية التي رافقت خروج منظمة التحرير من بيروت إلى تونس، حين قال الكثيرون إنّ حقبة بكاملها انتهت، لكن الفلسطيني عاد على هيئة حجر في وجه الاحتلال في منتصف الثمانينات، ليعود وينتفض مجدداً للأقصى، وعلى الرغم من كل ما حدث بعدها، من أوسلو وما تلاها من مفاوضات مع إسرائيل، وعلى الرغم من الانقسام الفلسطيني الداخلي بين الحركات الإسلاموية التي تتبع أجندات أيديولوجية ولا تمت للوطنية الفلسطينية بصلة، فضلاً عن تحريك دول إقليمية لها وفق مصالحها الخاصة، إلا أنّ الانتفاضة التي تعيشها فلسطين اليوم لها أجندة خاصة غير قابلة للاستثمار، لأنّها خرجت من أحياء القدس القديمة ودون سلاح إلا تلك الابتسامة البارعة واللافتة والشعار الوطني الخالص.


إنّ فلسطين التي رافقت طفولتنا في الأناشيد المدرسية، والتي حملناها في قلوبنا ببراءة ودون استثمار ومتاجرة، كما فعلت العديد من الأنظمة العربية، والتي لم تغب عن بالنا رغم مآسي كل عربي منا في بلاده، ستبقى جزءاً من منظومة قيمنا بوصفها القضية الأكثر عدالة على وجه الأرض، ففلسطين ليست قضية مقدسات للمؤمنين فقط، ولا هي قضية تحرر وحسب، فلسطين وبكلمة واحدة قضية أخلاق.


أسامة هنيدي


ليفانت - أسامة هنيدي

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!