-
الهولوكوست وسياسة الاستثمار المستدامة
"عندما نزلنا من الطائرة معاً على التراب الألماني، استقبَلَنا حرسُ الشرف العسكري الألماني. هذا انتصار لهم، ولي كابنٍ لأحد الناجين من الهولوكوست، ولنا كشعب وأمة. لن ننسى أبداً". كانت هذه كلمات رئيس الوزراء الإسرائيلي لابيد بعد وصوله إلى برلين برفقة بعض الناجين من المحرقة النازيّة.
ورغم أنّ الزيارة كانت بهدف تنسيق المواقف في القضية النووية الإيرانية، ووضع اللمسات الأخيرة على وثيقة التعاون الاستراتيجي والاقتصادي والتعاون المتعلق بالسياسة الأمنية، وهي الوثيقة التي ستوقع في برلين، إلا أنّ استثمار الظروف والأحداث لا يغيب عن أذهان القادة الإسرائيليين، خاصّة وأنّه لم تمضِ بعدُ أسابيع قليلة على العاصفة التي أثارها الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشأن الهولوكوست في برلين ذاتها.
لم يترك الإسرائيليون بالطبع ولا الحركة الصهيونية العالميّة، أي مجال لاستغلال هذا الخوف والرعب من ذكرى المحرقة، إلا وطرقوه بقوّة، فبات الأمر بالنسبة لهم بمثابة مقياس لاختبار ولاء أي سياسي غير صهيوني. حتى صار الأمر، بما وصل إليه من تقنين صريح في أغلب هذه الدول يجرّم إنكار المحرقة، بمثابة قيد على حرية البحث العلمي وإبداء الرأي والتعبير والتفكير حتى. لقد تصاعدت حدّة الاتهامات لكلّ من يتطرّق لهذه المسألة، فحُكم على العديد من المفكرين والأدباء والصحفيين بالسجن والغرامات والإقصاء من الحياة العامّة، ولعلّ أشهرهم المفكر الفرنسي روجيه غارودي، فأغلبنا يتذّكر كيف رفضت جميع دور النشر الغربية طباعة كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"، وكيف حاصرت المنظمات اليهودية صاحب دار النشر السويسري الذي نشر الكتاب، بل ولاحقته أمام القضاء السويسري مما أدى لإفلاسه وإغلاق دار النشر خاصّته.
لا يعرف الكثيرون حول العالم كيف تُدار الأمور هنا في ألمانيا، فعقدة الذنب ما تزال سيفاً حادّ النصل مجرّداً على رقاب السياسيين والرأي العام الألماني. الحقيقة أنّ سياسيات الأحزاب على اختلاف توجهاتها لا تتفق إلّا على هذه المسألة، تجريم المحرقة وتجريم من ينكرها. وقد وصل الأمر من حيث النتيجة إلى تحريم البحث فيها ودراستها حتى بشكل أكاديمي، فهذا وإن لم يكن منصوصاً عليه في أي قانون، إلا أنّه ما من باحث يتجرّأ على الكتابة في هذا الموضوع، وإن تجرّأ أحدهم وكتب، فإنّه ما من دار نشر يمكنها أن تنشر له.
وليس الأمر محصوراً في ألمانيا، بل إنه يؤرّق الأوروبيين والغربيين جميعاً، حتى إنّه يطال الكثير من بلاد العالم الثالث. وقد وصل الأمر إلى مستوى متقدّم تؤكِّد فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة رفْض أي إنكارٍ كلي أو جزئي لوقوع المحرقة كحدثٍ تاريخي، بل وتحثُّ الأممُ المتحدةُ الدولَ الأعضاء على وضْع برامج تثقيفيَّةٍ، لترسيخ الدروس المستفادة من محرقة اليهود في أذهان الأجيال المُقبلة، واتِّخاذِ إجراءات لتعبئة المجتمع المدني من أجْل إحياء ذكرى هذه المحرقة.
لا يمكن لعاقل بكل تأكيد أن ينكر تعرّض اليهود لمجازر فظيعة في أوروبا كلها وليس في ألمانيا وحدها خلال المرحلة النازية، والمسكوت عنه أنّ كثيراً من حكومات الدول التي احتلتها جيوش هتلر النازية، بل وفئات واسعة من بعض الشعوب أيضاً، كانت مستعدّة بشكل مسبق لقبول مبدأ التنكيل باليهود، لكنّ دخول الألمان بعنف على الخط خطف الأضواء من الجميع. ورغم المأساة الحقيقيّة التي تعرّض لها اليهود على يد النازيين، فإنّه من العقل والحكمة أيضاً النظر إلى المحرقة كنتاج نهائي للصراع الحضاري داخل أوروبا، والنظر إلى ضحايا النازية والفاشية والشيوعية بشكل كليّ، وعدم التركيز فقط على اليهود وإظهارهم وكأنهّم الوحيدون الذين تعرضوا للمذابح، مع عدم التقليل من شأن ما تعرضوا له بالطبع. لكنّ استثمار إسرائيل وقادتها في هذه المأساة جعلها وسيلة ابتزاز عابرة للقارّات، وربّما هي الوسيلة الأنجع للقفز على موجبات القوانين والمعاهدات الدولية التي تلزم إسرائيل باحترام حقوق الإنسان، فهي لا تتعرّض لأيّة ضغوط من دول العالم المختلفة، وخاصّة من الدول الغربية، تجنّباً لمسألة الاتهام بمعاداة الساميّة التي جرى دمجها قسراً بمعاداة الصهيونية وإنكار الهولوكوست.
المشكلة اليهودية في أوروبا ليست وليدة المرحلة النازية بكل تأكيد، ولا هي بنت لحظتها، إنها علاقة استمرّت منذ لحظة صلب المسيح في ذاكرة الكنيسة المسيحية. لقد كان من الصعب على اليهود الاندماج في المجتمعات الأوروبية، ولأسباب كثيرة يقصر المجال عن شرحها هنا، لكن من الممكن أن يكون أهمها اعتبارهم موصومين بالعار سلفاً وبالجملة بسبب الصلب ذاته في الضمير المسيحي أولاً، وباعتبارهم ثانياً أتباع دين غير تبشيري لا يمكن إلا أن يكونوا منغلقين على ذواتهم، ويصعب ذوبانهم في المجتمعات الغربية المسيحية، ضمن شروط العيش في تلك الأزمان قبل تشكّل الدول على أسس المواطنة.
من هنا وجب أيضاً على الضمير الإنساني ألا يغمض عينيه عن المجازر التي ارتكبها الصهاينة بحق أهل فلسطين من العرب، مسيحيّيهم ومسلميهم منذ ما قبل إعلان دولة إسرائيل. لكن هذا الطرح غير متاح في أوروبا على الإطلاق، فتهمة معاداة الساميّة جاهزة لكل من يحاول الكتابة بحيادية عن الأمر، فما بالكم بمن يحاول الانتصاف للحقيقة ولمعاناة الفلسطينيين.
ومن هنا يقع على عاتق المثقفين العرب ومراكز الأبحاث العربية مهام جسام تتمثل في إظهار الحقائق هذه، وفي مخاطبة الشعوب الغربية والآسيوية والإفريقية وشعوب أميركا الجنوبية بلغاتها وبما تألفه عقول أهلها، لشرح أبعاد القضية وأبعاد الصراع. ومن الحكمة أيضاً إتقان أساليب خطاب الحكومات والمجتمعات المختلفة، فلا يُعقل أن نبقى أسرى طرقنا التقليدية التي لم نجتهد يوماً في تغييرها، فلا بدّ من معرفة ثقافات الشعوب والمداخل إلى ضمائرها، لتغيير ما رسّخته الرواية الإسرائيلية والصهيونية من مفاهيم خاطئة. يجب تفنيد هذه الصورة النمطيّة الخاطئة، كي لا نبقى دوماً، ويبقى العالم معنا عرضة للاستثمار والابتزاز الإسرائيلي.
ليفانت - حسان الأسود
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!