الوضع المظلم
الأحد ١٠ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
هل أضحت تركيا “دولة عظيمة”، أم إنّها تتوهّم؟
تركيا


خاص ليفانت



إعداد وتحرير: أحمد قطمة


تمتلك تركيا ثاني أقوى جيش في الناتو، وتعداد سكاني هائل يقارب الـ82 مليون نسمة، وقوة صناعيّة نامية، وبنية تحتية جيدة خاصّة في المدن الكبرى كأنقرة وإسطنبول، وهي مؤهلات ربما تساعدها في أن تكون قائدة في المحيط الإقليمي لها، فما الذي يمنعها إذن من ذلك، وما الذي تفتقد إليه حتّى تغدو دولة عظيمة كما تسعى أن تكون.


أسئلة حاول أن يجيب عليها دبلوماسي كندي سابق، عمل في أنقرة، قال إنه ينبغي على تركيا أن تقوم بتسوية المشكلتين الكردية والأرمنية المزممنتين وضمان حرية الصحافة حتى تكون عظيمة مرة أخرى، وكتب ذلك في التاسع من أبريل، وهو “بروس مابلي” في “مجلة أوراسيا ريفيو” (Eurasia Review)،مشيراً: “إنّه ينبغي على تركيا أن تعترف بالإبادة الجماعية الأرمنية وتحرّر الصحفيين المسجونين وتحلّ المشكلة الكردية من أجل تحسين نفوذها السياسي في المنطقة، قائلاً: “على تركيا أن تبدأ تحسين صورتها في المنطقة والعالم بحلّ قضية الإبادة الجماعيّة الأرمنية من خلال إحالتها إلى لجنة حكماء لبحث سبل الحلّ بطرق علمية”.


الملفّ الأرمني ورفض الاعتراف


تقول التقديرات، إنّه قد قُتل ما بين 1,2 مليون و1,5 مليون أرمني أثناء الحرب العالمية الأولى على أيدي قوات السلطنة العثمانية المتحالفة آنذاك مع ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، ويسعى الأرمن إلى حمل المجتمع الدولي على الاعتراف بالإبادة، الأمر الذي سبق أن فعلته حوالى ثلاثين دولة بينها فرنسا عام 2001، وعام 2019، فيما كرّس ماكرون يوم 24 أبريل، مناسبة لإحياء ذكرى “الإبادة الأرمنية” ما أثار غضب الحكومة التركية.


 


إذ ترفض تركيا استخدام كلمة “إبادة”، متحدّثةً عن مجازر متبادلة على خلفية حرب أهلية ومجاعة، ما أدّى إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني وتركي، وليس ذلك بالمستغرب على أنقرة، فهي ترفض الاعتراف بمسؤوليتها عن جرائم لا تزال ترتكب في ليبيا وشمال سوريا، من قبل مسلحين تشرف بشكل مباشر على عملهم، وهو ما خلص له عدد كبير من المؤرّخين والأكاديميين، في كون أنّ ترحيل الأرمن وذبحهم خلال الحرب العالمية الأولى، يستوفيان التعريف القانوني لكلمة إبادة.


ومن هؤلاء المؤرّخ التركي تانير أكشام مؤلّف كتاب “أوامر القتل: برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية”، الذي يُثبت صحة “برقيات” عثمانيّة أمرت بتنفيذ الإبادة الأرمنية وتعتبرها أنقرة مزيّفة، لفضحه إنكار السلطات التركية للأمر، حيث يؤكّد الكتاب أنّ طلعت باشا كان واحداً من الحكومة الثلاثية التي حكمت الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وقد أمر بعمليات قتل جماعي وعمليات ترحيل للأرمن في الأناضول”.


وبحسب الكاتب إلهان تانير في موقع أحوال تركية، فإنّ بحث أكشام شديد التدقيق يبرهن على وجود مسؤول عثماني يدعى نديم أفندي، كما يقدم المصادر ذات الصلة، ويبرهن أيضاً على أن نديم أفندي كتب ونشر هذه المذكّرات. ويقدّم أكشام من خلال بحثه، دليلًا إيجابياً على أنّه في عام 1915، عندما كان طلعت باشا يخطّط للإبادة الجماعيّة، كان قد بدأ أيضاً محاولة التغطية على آثارها، ويقدّم أكشام وثائق عثمانيّة توضّح تزوير أولئك الذين انتقدوا الوثائق، أو أنّ الطريقة التي كتبوا بها أطروحاتهم عن تقنيات التشفير فيها كانت خاطئة أو تمّ التكهن بها بصورة بحتة، وقدّم أكشام هذا من خلال وثائق من مجلدات كثيرة عثر عليها في سجلات هيئة الأركان العسكرية.


الصحافة وسلطات أنقرة خصمان


كما دعا الدبلوماسي الكندي السابق إلى الإفراج عن الصحفيين المسجونين في تركيا، مؤكداً أنّ الصحفيين يشكّلون تهديداً لاستقرار النظام عندما يكونون في السجن، متابعاً: “تركيا والصين هما أكبر سجانين للصحفيين في العالم، لقد تضرّرت وسائل الإعلام التركيّة بشدّة من حملة القمع الحكومية التي أعقبت محاولة انقلاب عام 2016، إذ تعرّض عشرات الصحفيين للسجن وأغلقت كثير من وسائل الإعلام الناقدة”.


 


لكن ذلك يبدو صعب المنال، حيث أكّدت تقرير لدوتش فيليه الألمانية في الرابع عشر من يناير، أنّ الصحافة التركية تعيش واحدة من أسوأ عصورها في ظلّ حكم رجب طيب أردوغان، وحسب التقرير، من الصعب على الصحفيين في تركيا الإبلاغ عن قضايا مثل الفساد أو حرب الحكومة مع الأكراد، كما قال جلال باسلانجيتش من قناة Arti TV المستقلة ومقرّها ألمانيا، وقال: “الأهم هو مقاومة الحرب والدعوة من أجل السلام، لكن في الوقت الحالي في ذلك البلد، فإنّ الذين يريدون السلام يعاملون كإرهابيين”.


فيما أعطى أيدين إنجين، كاتب عمود في جريدة “جمهوريت” اليومية، رأياً مماثلاً، وقال إنّ وسائل الإعلام لم تعد حرّة منذ الاستفتاء على الدستور لعام 2017، الذي ألغى منصب رئيس الوزراء وأصبحت السلطة مركزة في الرئاسة بدلاً من البرلمان، وقال إنه لا يكاد يوجد منفذ إعلامي حرّ في ظلّ مناخ من القمع، ووفقاً للإحصاءات الرسميّة، واحد من كل أربعة صحفيين في تركيا عاطل عن العمل.


وهو ما ذهب إليه تقرير في الواحد والعشرين من يناير، ناقشته الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، حول “حرية الإعلام” في أوروبا خلال جلسة الجمعية العمومية، والذي جاء فيه أنّ السجون التركية هي الأكثر اكتظاظاً بالصحافيين المعتقلين، حيث تمّ إعداده من قبل البرلماني البريطاني جورج فولكس، ويحمل عنوان “سلامة الصحافيين في أوروبا وحرية الإعلام”، وقال في الجزء الخاص بتركيا: “على تركيا أن تتوقّف عن سوء استعمال قوانين الإرهاب والعقوبات، من أجل إسكات الصحافيين والصحافة”، مسلطاً الضوء على أنّ الصحافيين في تركيا يتمّ اعتقالهم لأشهر وسنوات بشكل اعتباطي، قبل أن يتمّ عرضهم على المحكمة المختصّة، مؤكداً أن هذا الوضع مخالف لحرية التعبير والفكر، كما سلّط الضوء على انتقادات هذا الوضع من قبل محكمة حقوق الإنسان الأوروبيّة. وطالب التقرير حكومة حزب العدالة والتنمية إما إلغاء أو تغيير المادة 299 من قانون العقوبات والمتعلقة بجريمة “إهانة رئيس الجمهورية” والمادة 301 من القانون نفسه المتعلّقة بالجرائم الخاصّة باحترام سيادة الدولة ومؤسساتها.


استعداء الكُرد في تركيا وسوريا


ورغم ما تسعى إليه أنقرة من إبراز نفسها عليه، وكأنها قد باتت قوى عظمى أو قوّة إقليميّة على أقلّ تقدير، وأنّه لا يمكن تجاوزها في حلّ المشكلات التي تعترض منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دون تجاوزها، يبدو أنّ الوقائع تسير بعكس ما يشتهيه قلب تركيا، فهي تثبت رويداً رويداً أنّ أنقرة ليست سوى جزء من المشكلة، وأن المشاكل المختلقة في مجموعة من بلاد الإقليم المحيط بتركيا، ربما لم تكن لتأخذ ذلك المنحى الدموي لولا الدعم التركي للتيارات المتطرّفة في سوريا وليبيا أقلّه، وهي المثالان الحيّان الباديان، وأغلب الظنّ أنّ الأمثلة التي تتدخل أنقرة لإذكاء نار الفتنة النائمة فيها أكثر بكثير.


 


وفيما يتعلّق بالقضيّة الكُردية التي تُعاني منها تركيا منذ عقود طويلة، قال مابلي إنّ إنهاء الصراع مع الكُرد في كل من تركيا وسوريا سيقوّض جاذبيّة “الجماعات الانفصاليّة” (على حدّ وصفه)، معقّباً بالقول: “إنّ أضمن طريقة لمنع إقامة دولة منفصلة تسمى كُردستان هو تقديم تنازلات ذكيّة حكيمة على الصعيد التربوي واللغوي”، في إشارة منه إلى ضرورة الاعتراف بحقوق الشعب الكردي الثقافية والتعليمية بلغته الأم.


وصفة من ثلاث أركان تبدو صعبة التحقيق، حيث من الواضح أنّ الوهم قد أكل تركيا، وبات يهيّئ لها بأنّها يمكن أن تفرض ما تريده من حلول بقوّة السلاح، حتّى لو كان ذلك مخالفاً للقانون الدولي والأعراف والمواثيق، فتدخلت في سوريا ودعمت ميليشيا في ليبيا بشكل غير مشروع، ولا تزال مُصرّة على الحلّ العسكري مع الكُرد داخل حدودها المصطنعة باتفاقية لوزان 1923، إلى جانب التدخل في القضية الكُردية بسوريا، ومحاولة منع حلها بطرق سياسية، وعليه، لا يبدو أنّ تركيا قد ترتقي إلى مصاف الدول العظيمة وفق وصفة الدبلوماسي الكندي، أقلّه في ظلّ حكم أردوغان وزبانيته.

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!