الوضع المظلم
الجمعة ٢٧ / ديسمبر / ٢٠٢٤
Logo
انشغالات الهويَّةِ، أين نحن؟ ومن نحن؟
لونا

أثناء بحثنا كسوريين عن هويتنا نتعثر دائماً بحجم التيه الَّذي نتخبط به، فبين لجوءٍ لم يختره أحد وبين بقاءٍ ضمن ظروف لا إنسانية أو نزوحٍ داخلي، وبين سيطرةٍ سياسيةٍ لطغمة حاكمة عملت منذ سنواتٍ طوال على ترسيخ حالةٍ من التشتت والضياع، تعاني الأغلبية السورية من سؤال "من نحن؟".





انطلاقاً من هذا السؤال قامت منظمة "الديوان الشرقي الغربي"، وهي منظمة عراقية مرخصة في مدينة كولن الألمانية، بالتعاون مع "جماعة حالة الثقافية الاجتماعية" وهي مجموعة من الشعراء والكتاب السوريين تأسست في سورية وتابعت نشاطاتها في كولن/ألمانيا، بتنظيم فعالية ثقافية في مدينة كولن بعنوان"إنشغالات الهوية، أين نحن؟ ومن نحن؟" بتاريخ 21/12/2019. تضمنت الفعالية قراءاتٍ شعرية للشعراء: خليفة الدليمي/ روائي وشاعرعراقي، فايز العباس/ كاتب وشاعر سوري، و عماد أبو أحمد/ كاتب وشاعر سوري، ومن ثمَّ عرضاً لفِلم وثائقي بعنوان "البحث عن ملاذ في ألمانيا"، وهو فِلم ٌيوثق جانباً من التغريبة السورية عام 2015، أنتجته قناة الجزيرة الإنجليزية عام 2017 وعرضته عام 2018 ضمن برنامجها الوثائقي الاستقصائي الأسبوعي "الناس والسلطة/People & Power"، تصوير الصحفي ومدير تحرير منصة تأكد -وهي المنصة السورية الوحيدة التي تُعنى بتمحيص الأخبار والتحقق منها- ضرار الخطاب، ومن إخراجه بمساعدة المخرج السوري ماهر جاموس، وبمشاركة الشخصية الرئيسية للفِلم الكاتب ميلاد جرجس والذي كان حاضراً لعرض الفِلم والنقاش بعده.


 



الكاتب والشاعر محمد المطرود الكاتب والصحفي محمد المطرود

يقول محمد المطرود أحد أعضاء جماعة حالة وأحد منظمي الفعّالية: " تماشياً مع ارتباكات الهوية الجديدة والشتات السوري ونتيجة نقاشاتنا المتكررة أنا وميلاد جرجس في هذا الشأن، قررنا أن نبدأ خطوة في الاتجاه الصحيح، وما أراه الآن أنَّ طرح الأسئلة ضرورة ملزمة في الوقت الحالي أكثر من محاولة البحث عن إجابات، وذلك في إطارسعينا الدائم لأن نتعرض للحالة السورية خارج إطارالمظلوميات".


 

 


 




أما الشاعر فايز العباس فقد كانت مشاركته منطلقةً من منظوره الخاص عن الهوية. إذ يرى أن علاقة السوريين بعضهم ببعض أصابتها تحولات جذرية قبل اللجوء وأثناءه، فمع بداية الثورة احتل الهاتف المحمول مكان العلاقات الطبيعية بين البشر وأصبح هو الأهل والأصدقاء وأخبار الوطن سواءً بنقلها أو بمتابعتها. ما جعل العباس يؤلف ديواناً سمَّاه "خمسة ميغا بيكسل" ويشارك بإحدى قصائده منه في الفعالية بعنوان "القناص". وعن ديوانه يقول: "الهوية كحالة ومفهوم هي أكبر من أن يتم طرحها بقصيدة أو فِلم، لكن مهمتنا ككتاب وشعراء أن نبدأ بطرق الأبواب لإيجاد ثغرات نصل من خلالها لهويتنا الحقيقية. الصراع الدائم ما بين السوري داخل الهاتف المحمول وخارجه، داخل سورية وخارجها، قبل اللجوء وأثناء الثورة، هو ما أردت إيصاله بذاكرتي المكتوبة في الديوان، فالقناص مثلاً كان في مرحلة ما ثيمة أساسية في المشهد السوري، بل ربما كان سيده. حاولت في ديواني أن أتناول المؤثرات التي اشتغلت وغيّرت في الهوية السورية منذ بداية الثورة إلى يومنا هذا".



الشاعر فايز العباس



عماد أبو أحمد الشاعر الذي استطاع أن يضحك ويبكي الجمهور في آن واحد بإلقاءٍ تجاوز حدود الكلمات في القصيدة إلى الشعور بكل كلمة فيها بواسطة مزج الألم بالأمل والحزن بالابتسامة، يرى أن ما ألقاه من قصائد لا تعالج الهوية بطريقة نقدية، بل هي توصيف لحالته كشاعر مغترب، ضائع على حدِّ هويتين، أفقده الاغتراب والمنفى جزءاً من الأولى، ولم يجد في نفسه القدرة على تبني الثانية. يوصِّف عماد بكلماته الخاصة مشكلة بعض السوريين لناحية عجزهم عن الانتماء لبلدانهم البديلة فيقول: "في المقام الأول هي مشكلة المضيف عندما لا يتقبل الاختلاف، أو يضعنا إما بخانة القادم من المنطقة الظلامية التي غابت شمس الحضارة عنها أو الإرهابي. هنالك رغبة عبثية عبّرت عنها فيما قرأت، وهي أنني فكرت أكثر من مرة أن أصبغ شعري باللون الأشقر لكي أبدو جرمانياً أصيلاً. ورغم أنني لا آخذ هذه الرغبة على محمل الجد، إلا أنها تعبر عن شعوري العميق بأنني أرغب في أن أكون مقبولاً في المجتمع الألماني حتى ولو على مستوى الشكل". يعتقد عماد أيضاً أن لا وجود للهوية السورية عند البعض ممن خرجوا من سورية، بل هي هوية الرجل الحَدِّي الذي عرَّفه عالم الاجتماع بارك بأنه من يوقعه القدر بين مجتمعين أو ثقافتين متضادتين، وبهذا يكون ذهنه كالبوتقة التي تنصهر فيها الثقافتان وتمتزجان. فإن لم يستطع الإنسان التعامل مع هذه الحالة فلن تلبث شخصيته وقيمه أن تنشطر إلى قسمين.



الشاعر عماد أبو أحمد الشاعر عماد أبو أحمد



نظرية الرجل الحَدِّي Marginal man التي أشار لها عماد هي نظريةٌ شائعة بين علماء الاجتماع، وعنها يقول عالم الاجتماع ستونكوست أن الرجل الحَدِّي يمر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: وهي التي لا يفطن فيها صاحبها إلى التناقض الذي يحيط به.

المرحلة الثانية: حيث يبدأ التناقض الاجتماعي والثقافي يسيطر على الشخص، فتنشأ عندئذ في أعماق نفسه أزمة وتأخذ القيم التي نشأ عليها بالتفكك.

المرحلة الثالثة: يحاول فيها الشخص إيجاد سبيلٍ للتوفيق بين العوامل المتناقضة في نفسه، وكثيراً ما يكون الصراع النفسي أقوى مما تحتمله مواهب الإنسان، فتتفسخ شخصيته من جراء ذلك.

ولأننا بطريقة أو بأخرى مررنا بمراحل مشابهة لم ننجُ منها بعد، يعتقد عماد أن معظمنا لا يملك هوية أصلاً، بل أجزاء وربما شظايا هوية.




وعن سؤالنا له إن كان يرى أملاً بمثل هذه الفعاليات لتشكيل وعي جديد تجاه أهمية الهوية بالنسبة للمغترب أجاب: "لا أجد لها فائدة ترجى إن لم يتم دعمها معنوياً ومادياً كي تستطيع جذب أكبر عدد ممكن من المهتمين. لا يكفي أن نشعر أننا بمشكلة حين نجلس وحدنا؛ هذه النقاشات تساعد على أن يسمع كل شخص منا نفسه أولاً ومن ثم الآخرين، وبهذا نستطيع استيعاب حجم ما نحن فيه من تيه ونبدأ التفكير بالحلول الممكنة".




يرى عماد أن كتابته للشعر لا تنبع أساساً من محبته له بقدر ماهي محاولة منه للحفاظ على ما تبقى من هويته القديمة، وهو إذ يتمسك بهذه الأخيرة يجد نفسه فريسة سهلة لازدواج الهوية، يقول عن ذلك: "أعتقد أن ازدواج الهوية سلاحٌ ذو حدين، فمن جانب يمتلك الإنسان ثقافتين مختلفتين ويرى الأمور بوعي أكبر وحيادية أوضح، ومن جهة أخرى ما ينتجه هذا الازدواج من آثار سلبية كافٍ لأن يفتك بصاحبه إن لم يستطع تحقيق التوازن النفسي". وكما أن لازدواج الهوية مشاكله فأيضاً للهوية العالمية أو الكونية مشكلة كبيرة من وجهة نظره، وعن ذلك يقول: "لا أؤمن بأن هنالك مايسمى الهوية العالمية، ولا يتوجب أن يوجد أصلاً، فالطبيعة البشرية مجبولة على أن يمتلك الإنسان هوية يشعر من خلالها باختلافه عن الآخرين، وهذا ما يؤدي للتنوع الثقافي ويحافظ على التعددية".


https://www.youtube.com/watch?v=dzZMCMeZLcg&feature=emb_logo




لقد أصبحت واحدة من الموضوعات الرئيسية لعصرنا - موجة من الإنسانية بحثًا عن ملاذ آمن. سواء أكانوا لاجئين من الحرب والقمع أو مهاجرين فروا من الفقر، فقد اتخذ الملايين في السنوات الأخيرة هذا السبيل على أمل أن السلامة والحياة الأفضل تكمن في مكان آخر" بهذه العبارة ومع عرضٍ لرحلات اللجوء عام 2015 ابتدأ مذيع الجزيرة الإنجليزية فِلمَ "البحث عن ملاذ في ألمانيا". يتابع جمهور الفعالية الفِلم بدقائقه الخمسين وتتناهى همساتهم كل حين إلى أذني:"أذكر هذا المكان، هنا بالضبط حدث معي..، صحيح لقد تعرضنا لذات الموقف.." هذه الذاكرة الجماعية كانت أيضاً جزءاً من هوية تكونت عند ما لايقل عن 600 ألف سوري لجئوا إلى ألمانيا في ذات العام، الأمر الذي حدا بضرار و ميلاد لعرض فِلمهم وفتح باب النقاش بعده.



على يمين الصورة الكاتب ميلاد جرجس وعلى يسارها الصحفي ضرار الخطاب على يمين الصورة الكاتب ميلاد جرجس وعلى يسارها الصحفي ضرار الخطاب



يقول ميلاد عن سبب عرضهم للفلم ضمن مجريات الفعالية: "السبب الرئيسي هو استرجاع الهوية التي أتينا بها ومعرفة التغيير الذي طرأ عليها ولماذا" برغم أن ميلاد يملك جواباً لكل الأسئلة حول هويته، وبرغم أنه لا يعيش إشكالية ازدواج الهوية، حيث يعتبر أنه جزء من كل ما هو عليه الآن، إلا أن هذه المسألة بقيت محط اهتمامه في حواراته مع الآخرين لما يراه من أهمية كبرى أن تبقى قيد النقاش فيما بيننا كسوريين يعيشون تجربة اللجوء في الوقت الحالي. أما ضرار فيقول عن أسباب توثيقه لرحلة لجوئه: "كان من المهم جداً برأيي أن أقوم بتوثيق ما مرَّ علينا جميعاً كسوريين أجبروا على مغادرة بلادهم الأصلية. من الضروري أن يعرف الجيل القادم من أطفالنا لماذا غادرنا". ضرار -وعلى عكس ميلاد- يعاني من أزمة هوية ويشعر بعدم الانتماء لبلاد يحكمها ديكتاتور كسورية، وفي الوقت عينه لم يشعر أنه ينتمي لألمانيا بل ينتمي لمجموعة لا معينة من البشر تجمعه وإياهم مبادئ معينة كرفض الظلم والحرص على العدالة، يؤمن تماماً بمفهوم الهوية الكونية لأنه يراها الحل الأنسب لما يعانيه من أزماتٍ بالوقت الراهن.




ترفض الكثير من المجتمعات حاملي الهوية المزدوجة، فهم لا يحملون، من وجهة نظر هؤلاء، هويتهم الكاملة بل جزءاً منها، وذلك ما أفقد الكثيرين ممن ولدوا في وطن واستقروا في آخر حسَّ الانتماء لأيٍّ من البلدين، وبرغم أن هذا الرفض قد يكون مؤلماً لأنه يضع الإنسان بمواجهة أقوى مخاوفه وهي عدم الاستقرار والرفض من الآخر، إلا أنه ما زال حاضراً كأكثر سمات مجتمعات المهاجرين سوءاً. يأبى ميلاد بشكل قاطع الموافقة على وجهة النظر هذه ويقول: "لا يجب أن يعاني مزودج الهوية من رفض الآخرين له، لأنه لا يمكن لأحد أن يسلبك شعورك تجاه هويتك، اعترافنا بذواتنا لا يمكن لأحد أن يأخذه منا لأنه إحساسنا الخاص مهما قال الآخرون ومهما كان رأيهم تجاه ذلك فلا سلطة تتيح لهم إيذائنا، فالجنسية الحقيقية هي شعور لا ورقة أو إثبات يطلبه الآخرون". من جهة أخرى يرى ضرار أن النسبة الأكثر من السوريين يعاني من أزمات الهوية والانتماء سواءً من بقي في سورية أو خرج منها. وبرغم أنه يأمل أن يتمكن يوماً ما من العودة إلى وطنه الأم سورية إلا أنه يفكر دائماً بطفله الذي ولد هنا وكيف من الممكن أن يتخلى الطفل عن وطنه الذي ولد وترعرع فيه -ألمانيا مقابل وطن الأهل المختلف دون أن يتعرض لما تعرض له أهله الآن، ودون أن يعاني من سلبيات ازدواج هويته.




الاختلاف الحقيقي في مفهوم الهوية بين صانِعَي الفيلم ضرار وميلاد وأيضاً بين الشعراء عماد وفايز هو انعكاس لاختلاف الهوية بين عدد لا يستهان به من اللاجئين السوريين وأولئك أيضاً الذين لم يخرجوا من سورية. هذا الاختلاف هو نتيجة طبيعية لكل الأزمات التي عايشها الشعب السوري خلال السنوات المنصرمة، وهو ما يجعل أسئلة الهوية، من نحن، وأين نحن أسئلة لا يمكن وصفها بالعابرة أو المرحلية، إذ لا أحد منا يملك جواباً متى ستتضح معالم هذه الهوية؟ أو ما الجامع بينها؟ أو هل للدين والعادات والثقافة والقومية والمنطقة والأسرة دور أساسي أم ثانوي بها؟ أم هل هي شعور شخصي أو مفهوم قانوني وسياسي؟ وحتى يأتي ذلك اليوم الذي سنملك فيه الإجابات، ستبقى الهوية كلمة مضللةً ومريبةً لمعظمنا، خاصةً لأولئك الباحثين عن المعنى.




تولد دمشق - سوريا بكالوريس في الحقوق,صحفية تكتب بعدة لغات , مؤلفة كتب أطفال , عضو في المجلس الاستشاري بمدينة كوبلنز


 

العلامات

كاريكاتير

من وحي الساحات في سوريا

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!