-
جيجك كوباني.. والسؤال عن العنف منهجاً لمسلحي المعارضة السورية
يرشدنا المفكر وعالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان في كتابه الحداثة والهولكوست، ومحاولته لفهم دوافع من ارتكبوا المجازر بحق اليهود في ألمانيا النازية، إلى أن الشر لا يهبط من غيمة عابرة، بل إن له جذر متأصل في الجماعة.
تداول السوريون صورة مجموعة من المسلحين السوريين المدعومين تركياً والمحسوبين على المعارضة السورية، التقطوها بطريقة"السلفي" مع مقاتلة كردية من قوات سوريا الديمقراطية، أسروها أثناء المعارك في محيط مدينة سري كانييه/رأس العين السورية، وقبلها أيضاً تسرّبت مقاطع فيديو، لقتل وذبح مدنيين على يد الفصائل المسلحة ذاتها، أيضاً نشر المقاتلون أنفسهم مقطع فيديو لعملية إعدامهم الميداني للسياسية الكردية هيفرين خلف.
بطبيعة الحال، هذه المشاهد العنيفة والوحشية، ليست الأولى، فخلال السنوات الماضية نال كل متابع للشأن السوري إلى جانب السوريين أنفسهم كل نصيبه مشاهد العنف، بحيث بات من الضروري أن نكون زواراً دائمين للأطباء والمعالجين النفسيين، كي نتخلص من كم البشاعة في داخلنا.
الصدمة في قضية الأسيرة الكردية وهفرين خلف لم تكن بكم العنف واللامبالاة الأخلاقية لدى المسلحين المحسوبين على تركيا، بل الصدمة كانت من استغراب الكثيرين من لهذه الانحطاط الأخلاقي وترددت كثيراً عبارة"معقول كنا عايشين مع هدول الهمج؟".
قد لا أستغرب صدمة غير السوريين أو الناس من غير أبناء دول المنطقة التي نعيشها، لكن الاستغراب هو لصدمتنا نحن، وكأننا لا نعرف بطبيعة مجتمعنا التي نعيش فيه.
ثمة شيء من الضحك على الذقون والهروب من الواقع في صدمات السوريين المتكررة من مشاهد العنف والجرائم التي ترتكب في سوريا، سواء على يد الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة أو النظام، وهذا يجعلنا نفكر بأن ظهور تنظيم داعش قبل سنوات والجرائم البشعة التي ارتكبها، كان ملاذاً لنا لنحمّل التنظيم كل العنف المتجذر في مجتمعنا، وخاصة حين كنا نحيل الجرائم إلى عناصر من غير السوريين في التنظيم. اليوم خفت نجم التنظيم، وانزاح نوعاً ما من الواجهة، ليضعنا أمام مرآة تعكس عوراتنا التي تشبه كتلاً سرطانية طافحة على جسم مجتمعنا.
لا يمكننا القول بعد الآن بأن العنف طارئ على مجتمعاتنا، ليس فقط بسبب ما يفعله مسلحو المعارضة السورية الذين كنا نهرب إلى تحميل داعش مسؤولية كل العنف لنبرئهم من أفعالهم السابقة، فذات الفصيل الذي أعدم هيفرين وذات الفصيل الذي تعامل بلا أخلاقية مفرطة مع الأسيرة الكردية لهم تاريخ في العنف ليس بأقل سوء من تاريخ داعش، لكن الذي يؤيد نظرية جذور العنف في مجتمعنا، هو خروج العديد من المحسوبين على التيار المدني الرافض للعنف، بتبريرات لهذه الأفعال، سواء بإسقاط المنهجية عنا والقول بأنها أفعال فردية، أو الذين يبررون كل هذا العنف بأنه ردة فعل على سلوكيات قوات سوريا الديمقراطية في تعاطيها مع المدنيين قبل الآن.
يعزو هربرت كلمان تحول الألمان الأسوياء إلى جناة في جريمة كبرى في حديثه عن الهولوكوست بقوله" الوازع الأخلاقي ضد الفظائع يميل إلى الاختفاء بمجرد تحقق ثلاثة شروط، جميعاً أو فرادى:
1- تفويض استخدام العنف من خلال الأوامر الرسمية الصادرة من الجهات القانونية المعنية.
2- تنميط العمل عبر الممارسات النظامية المنضبطة والتوزيع الدقيق للأدوار.
3- تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية بواسطة التعريفات والمذاهب الآيديولوجية.
وبالنظر للحالة السورية، وما ترتكبه الفصائل العسكرية سواء الموالية للنظام السوري أو المعارضة له موضوع نقاشنا الحالي، نجد أن الشروط الثلاثة متوفرة، وسنتوقف عندها كل على حد
الشرط الأول تحقق، بدعم الكيانات الدينية المحسوبة على المعارضة السورية للعدوان التركي على الكرد في شمال شرق سوريا، فقد أصدرت الهيئات الدينية والجماعات السياسية الدينية كالإخوان المسلمين بيانات دعم وتأييد للعملية، للتخلص من الحزب "الإرهابي الملحد" حسب التعبيرات التي تتداولها هذه الكيانات، وهذا ما ترجم كشعارات يرفعها المسلحون التابعون للمعارضة أثناء المعارك وحتى قبلها.
يضاف إلى ذلك دعم المؤسسة الدينية التركية لهذه العملية، ودعوات العديد من أئمة الجوامع بعدم الرأفة حتى بالأسرى وضرورة قتل الكرد للتخلص منهم نهائياً.
الشرط الثاني أيضاً يتوفر في حالة المعارضة السورية، فهذه الفصائل المتطرفة والتي لها تاريخ أسود بما يخص انتهاكات حقوق الانسان والقتل العمد، وحتى قتل وذبح الأطفال، قامت المعارضة السورية المتمثلة بالإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية والحكومة السورية المؤقتة عبر وزارة الدفاع التابعة لها، بتنظيم صفوف هذه الفصائل، تحت اسم الجيش السوري الوطني، وقوننة علمياته العسكرية، والتثنية على ما يفعلونه ويرتكبونه من جرائم، وما زيارة سليم ادريس وزير دفاع الحكومة السورية المؤقتة لهذه الفصائل بعد سيطرتهم على مدينة تل أبيض التي شهدت منذ الساعات الأولى إعدامات ميدانية وتهجير للمدنيين وسرقة ممتلكاتهم، إلا دليل على توفر الشرط الثاني في هذه الحالة.
ولعل أبرز الدعوات كانت على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حين هدد المقاتلين الكرد بسحق رؤوسهم إذا لم يخرجوا من المنطقة التي أسماها"آمنة".
أما الشرط الثالث فيبدو أنه تحقق بتحقق الشرطين الأول والثاني، فإطلاق صفة الإلحاد على سكان المنطقة ودفع ودعم مجموعات دينية متطرفة للهجوم على المنطقة وحده كفيل بأن ينتج عن الهجوم فظائع وقتل جماعي، يضاف إلى ذلك تقديم المقاتلين في قوات سوريا الديمقراطية عبر الإعلام التركي والسوري الموالي له، على أنهم الراقصون على جثث المدنيين، والمتعطشون لدم العرب والأتراك كان كفيلاً أيضاً بشحن الجنود الأتراك والمسلحين السوريين ضد الكرد ومقاتليهم، وحتى المقاتلين العرب والسريان المتحالفين معهم، فهم في خانة الخونة والتخلص منهم أوجب حتى من قتل الكرد.
والحال، أن ما نعانيه من تفشي للعنف، وتلاشي للأخلاقيات، لم يأتِ من فراغ، بل جاء بإزاحة الأخلاق ومفاهيم العيش المتشرك، وإحلال الكراهية والشراهة لدم الآخر المختلف في المذهب والعرق والفكر السياسي، وذلك عبر دعم من المؤسسات الرسمية التابعة للدولة والمؤسسات الدينية المتماهية معها.
ومن النافل أيضاً، أن هذه الحالة المرضية، لا تواجه بالصدمة والاستنكار الآني، عبر منشور على صفحات التواصل الاجتماعي، ولا ببيان يصدر من منظمة حقوقية، بل يتطلب منا الأمر مراجعة سريعة وإنقاذية لأخلاقيات مجتمعنا قبل وأثناء الحرب، والبحث عن منهج يواجه منهج تأصيل العنف في العقل الجمعي، واستنكار ورفض نظرية الفعل ورد الفعل التي نلجأ إليها دوماً لرفع المسؤولية عن كاهلنا، والسعي وفق برامج حقيقية تعمل على إعادة تهيئة المجتمع.
إلى جانب ذلك، يتطلب منا السعي الجدي لمحاكمة المجرمين والقتلة ومرتكبي العنف، والداعين والراعين له، ونبذ المتماهين مع هذه الفكر، لا البحث عن مخارج طوارئ لهم، والقول "عفى الله عما سبق" لأن ما سبق يؤسس لمرحلة أكثر دموية في المستقبل.
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!