-
حديث السياسة التركي الجديد.. هل هي مجرد حركة في الفراغ؟
غير مرة يخرج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بحديث مباشر دون لبس يدعو فيه إلى تسريع وتيرة المصالحة مع القاهرة، وكذا رفع منسوب المحادثات البينية نحو درجة أعلى تسمح بحسم الملفات العالقة. إذ قال في رحلة عودته من أوكرانيا إن "لا خصومة في السياسة وإنما ينبغي أن تكون دائماً في بيئة سلام وأن توفر دائماً فرصة للحوار".
تتزامن التصريحات التي قالها أردوغان بخصوص علاقات بلاده مع القاهرة مع سياق إقليمي عام، يتحرك تجاه ضرورة خفض التصعيد المتبادل بين المحاور السياسية. وأن تتمم المصالحة المصرية التركية جهود تهدئة الأوضاع على محور المقاطعة الخليجية، والذي بدأ عبر قمة العلا في السعودية، وكذا كافة التحركات التي جرت بين أبو ظبي وأنقرة وطهران. فضلاً عن رؤية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في ذات الشأن بخفض التصعيد مع إيران وإيجاد تسوية سياسية للأزمات في المنطقة، لا سيما اليمن، مع الأخذ في الاعتبار الحوار السعودي الإيراني الذي انفتح عليه الطرفان، ويشهد أحياناً تقدماً، ولو ببطء.
حديث السياسة الذي جرى على لسان أردوغان ووجهه إلى الشعب المصري باعتباره "شعباً شقيقاً"، على حد تعبيره، ولا ينبغي، بالتالي، أن يكون في حالة خصام معه، لا يمكن النظر إليه بعيداً عن أجواء إعادة العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل مع إسرائيل، ومدى أهمية تحرك أنقرة النشط لمزاحمة السيناريو اليوناني في شرق المتوسط، حيث وقعت تل أبيب والقاهرة والاتحاد الأوروبي اتفاقية ثلاثية للغاز الطبيعي في القاهرة، منتصف شهر يونيو، حزيران الماضي. وذلك في الوقت الذي تكافح فيه أوروبا لإيجاد استراتيجية بديلة للطاقة لتحل محل الإمدادات الروسية التي كانت تعتمد عليها منذ عقود مضت.
إذ إن اللحظة الحالية ترفع شعار الطاقة كأولوية قصوى، وذلك نتيجة مباشرة للحرب الروسية في أوكرانيا، ومدى التهديد الذي تواجهه أوروبا من توقف إمدادات الغاز الروسي. الأمر الذي يرفع من طموح أردوغان بأن تشارك أنقرة كمركز لنقل الغاز إلى أوروبا عبر بلاده. فضلاً عن كونها نقطة تسويق دولي للطاقة نحو أوروبا من خلال الشرق الأوسط. الأمر الذي يعزز بشكل كبير أهمية أن تكون العلاقات مع القاهرة في أفضل حالاتها رغم ظل التناقضات في ملفات أخرى.
تمثل أهم البواعث التركية لتهيئة العلاقات مع القاهرة وعودة التمثيل الدبلوماسي الكامل مع تل أبيب درجة قصوى من بلوغ الهدف الاستراتيجي الذي يقترب من إضعاف الشراكة الاستراتيجية بين إسرائيل واليونان وقبرص. ومن ثم، الوصول إلى احتياطيات الغاز الطبيعي الإسرائيلي، رغم كافة التحديات التي ينبغي أن تواجهها تركيا نحو الوصول إلى ذلك.
كما أن الواقع يتمثل في كون تركيا تعتمد بصورة أساسية على واردات الطاقة من روسيا وإيران، وتدرك أنقرة أن المتغيرات الساخنة تدفعها نحو العمل على تنويع مصادر الطاقة لديها بعد نقص الإمدادات الذي أسفرت عنه الحرب الروسية في أوكرانيا. لذلك جاء قرار عودة العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب لتحقق أهداف اقتصادية، تمكنها من الوصول إلى احتياطيات الغاز الإسرائيلية، وتوظيفها في احتياجاتها المحلية، بالإضافة إلى كونها ورقة استراتيجية في خضم الصراع على الطاقة الذي يتصاعد كل لحظة.
مصر وتركيا تدركان يقيناً أهمية ثقل وضعهما الجيوستراتيجي. لذا من اليسير أن تلحظ الجهد الذي يبذل من أجل تسوية الملفات العالقة فيما بينهما ومدى الإلحاح الذي يبدو ظاهراً من الجانب التركي خلال الشهور الماضية. غير أن القاهرة ترى أن ذلك كله ما هو إلا حركة في الفراغ لا يمكن التعويل عليه بشكل تام، خاصة فيما يتصل بمنطقة شرق المتوسط ومدى أهمية قضية الغاز فيها لكلا البلدين وضرورة الوصول إلى تفاهمات مشتركة في هذا الشأن، حيث إن القاهرة قد اتخذت خطواتها بشأن اتفاقية رسم الحدود مع اليونان بينما كانت تركيا في العام 2019 قد أتمت ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، وهذا في وقت حكومة فايز السراج.
ويمثل ذلك واحداً من أهم الملفات الدقيقة في المباحثات المصرية التركية، من أجل عودة العلاقات الطبيعية فيما بينهما، في الوقت الذي تقدم فيه تركيا كافة أوراق الدعم والمساندة فيما يختص بورقة الإسلام السياسي، لترضية القاهرة بكل السبل في هذا الشأن، الأمر الذي يتم من خلال طرد القيادات الإخوانية وتسليم بعض الأمناء للأجهزة الأمنية وفرض القيود على استخدامات المال وكذا استلام التحويلات النقدية.
بيد أن الوصول إلى معادلة التفاهمات وتنحية الخلافات أمر يحتاج لكثير من الجهد عبر النقاط الوازنة في رصيد كل قوة، خاصة وأن الوضع في ليبيا يميل نحو الانفجار الكاذب في كل لحظة مع الانسداد السياسي وحالة السيولة التي باتت عليها الميلشيات المسلحة في الغرب الليبي. الأمر الذي يضع هذا الملف على أجندة الأولويات المصرية التركية، بغية الوصول إلى الحد الأمثل من التسوية والاتفاق على السيناريو الذي يحقق المعادلة المتوازنة لكافة الأطراف، داخلياً وإقليمياً ودولياً.
الدبلوماسية النشطة التي عرفتها تركيا، خلال الأشهر الماضية، من أجل تبييض ملف علاقاتها السياسية، خاصة مع دول الشرق الأوسط، جاء مبعثه الرئيس جراء الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا وانخفاض قيمة الليرة التركية عند مستويات متدنية وارتفاع التضخم على نحو لافت لم يصل له منذ عقدين. وكل ذلك يأتي في الوقت الذي ينبغي أن تشهد البلاد انتخابات رئاسية منتصف العام القادم. ولذلك انعطف على المصالحة التركية السعودية الإماراتية استثمارات بمبالغ كبيرة تم ضخها في دماء وشرايين الاقتصاد المتكلسة.
وبالنهاية، لا يمكن مقارنة ذلك، بأي حال من الأحوال، من تحركات السياسة الخارجية التركية تجاه إسرائيل ومصر ومدى أهمية أن يحقق ذلك تفاهمات على مستوى الطاقة والحصول على احتياطيات الغاز وتصديرها لأوروبا، لا سيما وأن الأيام القادمة ستكمل ولا شك طلباً متزايداً على الطاقة كبديل للغاز الروسي.
ليفانت – رامي شفيق
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!